الخميس، 18 نوفمبر 2010

التحليل الاقتصادي الكلي: تاريخ المصطلح

18 أكتوبر 2010

الدكتور عاشور فني

حين اهتم الفلاسفة الإغريق بالاقتصاد كان ذلك من خلال  الأنشطة المنزلية أو تلك التي تجري في جمهورية مدينة أثينا. جمهورية لا تتجاوز حدود المدينة العريقة. وقد استخدموا مصطلحا ينطبق على الواقع البسيط الذي كانوا يعالجونه: شؤون البيت Oikos Nomos، وقد اشتق مصطلح الاقتصاد في  اللغات الأوروبية من هاتين اللفظتين الإغريقيتين Economie, Economy .

نشأة مصطلح الاقتصاد السياسي
كان على أنطوان دي مونكرتيان، أحد مفكري المدرسة التجارية التي سادت في القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر في أوروبا، كان عليه أن يجتهد ليوسع النطاق الاجتماعي الذي يغطيه هذا المصطلح من دائرة البيت إلى نطاق الدولة، لكي يتمكن من معالجة فكرة ثروة الأمير. كان أول من استخدم مصطلح الاقتصاد السياسي: أي قوانين تدبير شؤون البيت مطبقة على المستوى السياسي، وعالج في مؤلفه (مصنف في الاقتصاد السياسي، 1615) فكرة إنتاج الثروة وتوزيعها على نطاق الدولة، من خلال أربعة فصول: عن المعامل، عن التجارة، عن الملاحة البحرية، عن شؤون الأمير.

المدرسة التجارية
 تمثل هذه الانشغالات نموذجا لانشغالات عصره المركانتيلي: زيادة قوة الدولة من خلال زيادة ثروة الأمير، بالعمل الإجباري في المعامل الصناعية والتجارة والملاحة البحرية لجلب الثروة في شكلها النقدي السائل. تلعب الدولة دور المحرك والمنشط للحياة الاقتصادية الصناعية عبر وحدات إنتاجية تنشئها الدولة وتديرها. فالمدرسة التي ينتمي إلهيا صاحب مصطلح الاقتصاد السياسي تعرف بأنها تدخلية، (تدعو إلى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي)، حمائية (تدعو إلى فرض إجراءات الحماية الجمركية من اجل حماية النشاط الاقتصادي الوطني)، معدنية (تنظر للثروة في شكل المعادن الثمينة أي الشكل السائل)، تدعو لفرض القيود الجمركية لحماية الاقتصاد الوطني وزيادة دخول المعادن الثمينة إلى البلد. ذلك كان مفهومها للقوة الاقتصادية. للمدرسة المركانتيلية فروع في كل البلدان الأوروبية الاستعمارية.

المدرسة الطبيعية
ظهرت المدرسة الطبيعية (منتصف القرن الثامن عشر) التي قدمت من خلال الجداول الاقتصادية لفرانسوا كيني أول فكرة عن الدورة الاقتصادية شبيهة بالدورة الدموية في الجسد الاجتماعي. غير أن الاختلاف بينهما كان كبيرا: فقد كانت الدكاترة الطبيعيون ينظرون  بعين الشك لدور التجارة في تخريب المجتمعات الأوروبية وبدلا من ذلك كانت الزراعة في نظرهم تمثل مصدر الثروة والقوة، والعمل الزراعي يمثل تزاوجا بين الطبيعة والإنسان مما يولد كل خير.

يهمنا من هذا أن التحليل الاقتصادي كان يجري على المستوى الكلي للدولة ككل. وقد استمر ذلك خلال فترة التجاريين والطبيعيين.

المدرسة التقليدية والمدرسة الماركسية
بعد ذلك جاء عصر رواد الاقتصاد الحديث، رواد المدرسة التقليدية: آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وجون ستيوارت ميل، وروبرت مالتوس، ثم نقاد المدرسة التقليدية من المدرسة الماركسية خاصة، واهم روادها، كارل ماركس، وفريدريك أنجلز،  كل هؤلاء المفكرين ساهموا في تشكيل النظرية الاقتصادية بشقيها الليبرالي والماركسي.

قدمت المدرسة التقليدية الأدوات الأساسية في التحليل الاقتصادي، تسمح بتناول الظواهر الاقتصادية تناولا علميا، وطرقت موضوعات متنوعة أهمها: طرق الإنتاج وقواعد المبادلة، قيمة السلع، ودور النقود والتجارة الدولية وتوزيع الثروة بين الطبقات الاجتماعية.

ففي ما يتعلق بالإنتاج والتبادل  قام التقليديون بتحليل وضعيات الاقتصاد الوطني في إطار ديناميكي يأخذ في الحسبان ظروف الإنتاج والمبادلة والتوزيع وتراكم رأس المال، أي نمو الاقتصاد ككل، مع تحليل  التأثيرات المختلفة لنظام التبادل والأسعار على الإنتاج وصولا إلى وضعيات الازدهار والأزمات.

وفي ما يتعلق بقيمة السلعة فرق التقليديون بين قيمة المبادلة وقيمة الاستعمال. قيمة المبادلة تتحدد بما تتضمنه السلعة من عمل.
أما في ما يتعلق بالنقود فقد كانت تعتبر أساسا وسيلة للمبادلة، غطاء محايدا للمبادلات ولا تأثير لها على عملية المبادلة.

 وللاستزادة من المعلومات حول هذه المدرسة، هناك العديد من الموضوعات التي يمكن ذكرها من قبيل:

اليد الخفية: هناك نظام تلقائي ينتظم الأنشطة الاقتصادية دون حاجة لتدخل الدولة.
تقسيم العمل: مصدر التقدم التقني؛
نظرية القيمة: تقوم على العمل؛
قانون المنافذ: أن العرض يخلق الطلب عليه؛
نظرية الأجر الحديدي: للأجر الحقيقي مستوى ثابت لا يمكن تجاوزه؛
نظرية المزايا النسبية في المبادلات التجارية الدولية.

كان تحليل المدرسة التقليدية يجري على المستوى الجزئي، في إطار المؤسسة الإنتاجية ويتناول بالدراسة علاقات العمل، وتوزيع الدخل، وعمليات الادخار والاستثمار، والتبادل، وفي كل ذلك يتم التطرق إلى فكرة تراكم رأس المال والنمو الاقتصادي وتطور النظام الرأسمالي ومآله ودور الطبقات الاجتماعية المختلفة فيه. كان التحليل إذن يجري على المستوى الجزئي (الوحدة الإنتاجية) ثم يتم استخلاص النتائج وتتبع أثرها على المستوى الكلي، أي مستوى النظام الرأسمالي.

المدرسة التقليدية الجديدة
في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ظهر تيار جديد في الفكر الاقتصادي مثلته كوكبة من الاقتصاديين عرفوا بالتقليدين الجدد، ظهرت مؤلفاتهم دفعة واحدة خلال فترة متقاربة  في الجامعات الأوروبية، أهمهم  كارل منجر, Carl Menger، ووليام جيفونسWilliam Stanley Jevons وليون فالراسLéon Walras يمثلون ثلاث مدارس: مدرسة كمبردج، والمدرسة النمساوية ومدرسة لوزان، بأسماء الجامعات التي كان يدرسون بها.

أرسوا قواعد التحليل الاقتصادي الجزئي  وفرضوا طريقة جديدة في النظر إلى الظواهر الاقتصادية من منظور الوحدة الجزئية: لمنتج الفرد والمستهلك الفرد سعر السلة الواحدة.
يقوم التحليل الاقتصادي الجزئي على مجموعة من المسلمات يمكن إجمالها في ما يلي:
1                     أن الظواهر الاقتصادية تقبل الدراسة بنفس الطريقة التي تدرس بها الظواهر الطبيعية الفيزيائية؛
2                     أن الفاعلين الاقتصاديين يتمتعون بالرشد التام في سلوكهم، وأن تفضيلاتهم قابلة للتحديد الكمي؛
3                     يسعى الفاعلون الاقتصاديون إلى تعظيم منافعهم وتقليص خسائرهم، حيث يسعى المستهلك إلى الحصول على أكبر منفعة بأقل تكلفة وتسعى المؤسسة إلى تحقيق أكبر الأرباح بأقل التكاليف ويسعى العامل إلى الحصول على أكبر عائد بأقل جهد؛
4                     يتحرك الفاعلون في السوق على أسس معلومات كاملة تصل إليهم عن طريق نظام الأسعار.

اعتمد التقليديون الجدد طريقة في التحليل تقوم على التحليل الحدي، أي حساب الوحدة الحدية، ولذلك يطلق على المدرسة أيضا اسم المدرسة الحدية. كما أنهم أقاموا فكرة قيمة السلعة على منفعتها لا على كمية العمل التي تتضمنها، مثلما درجت عليه المدرسة التقليدية.

 وقد عمل ألفرد مارشال على التوفيق بين الأجزاء المختلفة المكونة للنظرية الحدية، في مؤلف شامل(مبادئ الاقتصاد السياسي) ظهر في 1890، كان بمثابة الكتاب المقدس في التحليل الاقتصادي حتى نهاية العشرينيات من القرن العشرين.
وقد ساد هذا التحليل خلال حقبة طويلة غابت فيها الموضوعات المتعلقة بالنمو الاقتصادي وتراكم رأس المال ومآل النظام الرأسمالي.

شاع في فكر التقليديين الجدد نظرة تفاؤلية تقر بوجود نظام خالد يقوم على فكرة الإنسان الاقتصادي  الذي يعمل على إشباع حاجاته اللامتناهية.

المدرسة الكينزية
 في نهاية العشرينيات من القرن العشرين اهتز النظام الرأسمالي المصنع على وقع أزمة اقتصادية عالمية كبرى، أزمة الكساد الكبير: أزمة لم يكن بوسع النظرية الاقتصادية السائدة توقعها. كانت النظرية الشائعة تفترض أن العرض يخلق الطلب عليه، وأن التوازن الاقتصادي يتم عند مستوى التشغيل الكامل، وبالتالي فمن المستحيل أن يعرف النظام الرأسمالي البطالة أو الكساد. وقفت النظرية الاقتصادية عاجزة عن تحليل الوضعية الاقتصادية المستجدة، وضعية الكساد وظهرت سياسات اقتصادية تعالج الوضعيات القائمة في البلدان المختلفة، دون الاستناد إلى نظرية محددة.

في سنة 1936 ظهر كتاب جون مينارد كينز الشهير: النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود. كان ثورة في التحليل الاقتصادي:
1                  ترك التحليل الجزئي واعتمد التحليل الكلي في إطار الاقتصاد الوطني؛
2                  عرف الأزمة الاقتصادية السائدة آنذاك على أنها أزمة في الطلب الفعلي وحدد مكونات الطلب الفعلي الطلب الاستهلاكي والطلب الاستثماري، كما عرف محددات كل منهما: الميل للاستهلاك من جهة ومعجل الاستثمار من جهة أخرى  ؛
3                  قدم تحليلا جديدا لدور النقود في الاقتصاد يبتعد عن كونها مجرد غطاء للمبادلات؛
4                  حدد مجموعة من أدوات التدخل الحكومية قصد تصحيح الوضع من خلال سياسات ظرفية تكمل عمل الأسواق، هي السياسة النقدية والسياسة الميزانية؛

لقد عاد التحليل الاقتصادي إلى الاهتمام بالمسائل المتعلقة بالاقتصاد الوطني  من خلال العلاقات القائمة بين الكميات الكبرى: الدخل الوطني والاستهلاك والاستثمار ومعدل البطالة والتضخم. تلك هي المسائل التي يثيرها التحليل الاقتصادي الكلي.

للاتصال بالأستاذ
fenni.achour@gmail.com
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق